مقدمة

علم الحديث الشريف من أهم العلوم الإسلامية فهو المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي ، ولهذا كان الإهتمام به كبيراً و كثُر علمائه ، وتنوعت مؤلفاته، وتوسعت علومه.

عندما تبدأ بقراءة كتب السنة التي دونت فيها الأحاديث الشريفة و المرويات – ستمر عليك كثير من أسماء التابعين و تابعي التابعين و تابعيهم المعروفة ، فمثلاً سيمر عليك سند ذُكر فيه ” سعيد بن المسيب عن أبي هريرة “، وسعيد هذا هو أحد فقهاء المدينة السبعة من التابعين الذين انتهت إليهم الفتوى في المدينة في زمن التابعين.

ورود هذه الأسماء في رواية الأحاديث الشريفة ثم ورودها بكثرة في موضوعات و مسائل تتعلق بالإفتاء وتعليم الفقه ومسائله و مذاهبه ، يجعلنا نتساءل : هل كان العلماء يجمعون بين الفقه و الحديث ؟ أم كانت حالات الجمع بينهما حالات فردية استثنائية ؟

هذه الأسئلة سأحاول الإجابة عليها في ثنايا هذا المقال، فإن أصبت فهو من الله وحده لا شريك له ولا حول و لا قوة إلا به، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان و الله المستعان.

تعريف المحدث والفقيه :

” الفقه لغة: الفهم والعلم

واصطلاحًا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية فالفقه – بناء على هذا التعريف – ما اجتمع فيه أمران: المعرفة والدليل. فمعرفة الحكم الشرعي وحدها لا تسمى فقهًا، بل لابد من أن ينضم إليها الدليل الذي استقيت منه هذه المعرفة” (1)

من هذا التعريف يتبين لنا أن الفقه بمعناه العام هو العلم، و من التعريف الاصطلاحي هو العلم الذي يؤدي إلى الحكم على مسألة شرعية بسبب وجود دليل شرعي. و بالتالي فإن الفقيه لغةً : هو المشتغل بالعلم، أما معناه الإصطلاحي: هو العَالِم بالأحكام الشرعية وأدلتها .

أما المحدث مَنْ يشتغل بعلم الحديث رواية ودراية (2)

-العلوم الشرعية والسلف الصالح :

اولاً : الصحابة رضوان الله عليهم مع الفقه :

تميز فقه الصحابة رضي الله عنهم عمن بعدهم بأخذهم الفقه مباشرةً عن النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله عما أشكل عليهم، وشهودهم نزول الوحي وأسبابه، فجعلت هذه الأمور تعاطيهم مع المسائل الفقهية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أقرب لمشكاة النبوة ومقاصدها ممن جاء بعدهم .

ثانياً : الصحابة رضوان الله عليهم مع الحديث الشريف :

نشأ علم الحديث الشريف مبكراً جدا ًحيث ارتبط ذلك مع بداية نزول القرآن الكريم ، فقد آمن الصحابة رضوان الله عليهم أن الرسول صلى الله الله عليه وسلم وحي يروى عملياً أمام أعينهم، ووقر في قلوبهم ضرورة متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في كل كلماته وحركاته وسكناته وتقريراته والعمل بالأوامر منها و الكف عما نهاهم عنه، ثم حفظها والتوثق منها، ورواياتها لمن يأتي خلفهم. فنجد أن الصحابة رضي الله عنهم منهم من هو مكثر لرواية الأحاديث تتراوح مروياته بالآف و من هو مقل يروي الآحاد و من تتوسط أعداد رواياته بينهما.هل فرق الصحابة بين علمي الفقه و الحديث؟”قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرحمُ أمتي بأمتي أبو بكرٍ، وأشدُّها في دينِ اللهِ عمرُ، وأصدقُها حياءً عثمانُ، وأعلمُها بالحلالِ والحرامِ معاذُ بنُ جبلٍ، وأقرؤُها لكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ أُبَيٌّ، وأعلمُها بالفرائضِ زيدُ بنُ ثابتٍ، ولكلِّ أمةٍ أمينٌ ،وأمينُ هذه الأمةِ أبو عبيدةَ بنُ الجَرَّاحِ)” (3)

من هذا الحديث الشريف نجد أن الصحابة رضوان الله عليهم علموا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن هناك معارف متفرقة يمسمياتها تخدم الوحيين ، وهنالك تفاوت فيما بينهم في الإشتغال والإحاطة بها والبروز فيه ، و لكن كان يعتبرونها جميعهاً تفسيراً و تطبيقاً للوحيين لا انفصال بينها .

-العلوم الشرعية زمن التابعين و تابعيهم  :

“لكن المدقق البصير لتاريخ التشريع الإسلامي يعثر على شيء جمعه مالك دون غيره وهو اجتماع الرواية والفقه عنده، والسبب في ذلك أن الناس ما كانوا يفرقون بين الرواية والدراية في عصره، فالمحدث هو الفقيه والفقيه هو المحدث”(4)

استمر علماء التابعين وتابعيهم الإقتداء بالصحابة رضي الله عنهم وذلك باستمرارانشغالهم بالحديث والفقه دون تفريق بين المحدث و الفقيه، ولكن كما أن كل تحول تاريخي يبدأ ببعض الظواهر المتفرقة ثم تزداد وتجتمع مع مرور الوقت حتى تكون مصداقاً جديداً يصبح واقعاً مُعاشاً، فكذلك الأمر مع إنفصال الفقهاء عن المحدثين، فمثلاً نجد أن مقدمات هذا الإنفصال في الفقرات التالية :

-أسباب إنفصال الفقيه عن المحدث :

1.طلب عمر بن عبد العزيز جمع الحديث :

“.. تَكَوُّنُ طائِفَةِ المُحَدِّثِينَ وتجمعهم وبروزهم إلى المجتمع كمدرسة لها تخصصاتها واهتماماتها، مما أضفى عليها ملامح خاصة تميزهم عن غيرهم.ففي بداية هذا القرن بدأ تدوين الحديث وجمعه من الأقطار المختلفة يأخذ صبغة رسمية، وينال عناية الدولة، منذ أن أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم عامله على المدينة بأن يجمع ما عنده من سنة رسول الله – ﷺ -، وكتب إلى الآفاق: «انْظُرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فاجْمَعُوهُ»

فنشط العلماء لذلك وأكثروا من الرحلات ولم يقتصروا على جمع حديث رسول الله – ﷺ -، بل أضافوا إليه أقوال الصحابة والتابعين، والمأثور من أعمالهم، يقول أبو الزناد: «كُنّا نَكْتُبُ الحَلاَلَ والحَرامَ، وكانَ ابنُ شِهابٍ يَكْتُبُ كُلَّ ما سَمِعَ، فَلَمّا احْتِيجَ إلَيْهِ عَلِمْتُ أنَّهُ أعْلَم الناسِ» . واستغرق هذا المنهج في تأليف الحديث وجمع أقوال الصحابة والتابعين وأحكام مسائل الفقه – جل القرن الثاني.

والذي يهمنا هنا أن جمع الحديث قد اتسعت دائرته فلم يعد مقصورًا على أحاديث بلد معين أو باب معين، وأن البحث عن الحديث والأثر لم يكن لما يحمله من فقه فقط – كما كانت الحال قبل ذلك – بل كان يجمع أيضًا لذاته، وتجردت لهذا الجمع طائفة تفرغت له، وجابت الأقطار في سبيله، وأطلق عليها (المُحَدِّثُونَ)، وكان من هؤلاء مَن لَمْ يُعْنَ بِالإفْتاءِ فلم يهتم بالفقه الذي يتضمنه الحديث أو الأثر الذي يحفظه، كما كان منهم من قصد إليه للاستفتاء فكان يُفتي بما يحفظ، سواء أكان ما حفظه مما يفتي به حديثًا لرسول الله – ﷺ -، أم كان قولًا لصحابي أو تابعي أم رأيًا لشيوخه.

هؤلاء المُحَدِّثُونَ مِمَّنْ لا قدرة لهم على النظر العقلي لم يكن في استطاعتهم الثبات أمام المدرسة العقلية الافتراضية الحنفية إذا حدثت مناظرة أو نقاش في المسائل الخلافية، بل كانوا يصمدون بما يرونه من اعتزاز هذه العقلية بنفسها، وجُرأتها في النقد والموازنة، فيسرع إلى نفوسهم الظن بمخالفة هؤلاء للحديث والسنة، وتضيق بذلك صدورهم، فيطلقون فيها ألسنتهم بالاتهام والتشنيع، وتنتشر التهمة، وتتناقلها المجالس العلمية دون تحقيق، ودون احتكاك عملي بالمتهم. فالأوزاعي يَتَّهِمُ أبا حَنِيفَةَ بِالبِدْعَةِ، وسنده في ذلك ما نقل إليه عنه، لكنه يعدل عن ذلك عندما يُطْلِعُهُ عبد الله بن المبارك على مسائل أبي حنيفة، فيعجب بها، ثم يلتقي بأبي حنيفة في مكة ويناظره، ثم يقول: «غُبِطْتُ الرَّجُلُ بِكَثْرَةِ عِلْمِهِ ووُفُورِ عَقْلِهِ، وأسْتَغْفِرُ اللهَ تَعالى، لَقَدْ كُنْتُ فِي غَلَطٍ ظاهِرٍ، اِلْزَمْ [الرَّجُلَ]، فَإنَّهُ بِخِلاَفِ ما بَلَغَنِيَ عَنْهُ» .

وعندما ظهر الشافعي – الذي درس مذهب الفريقين وتَمَرَّسَ بمَنهَجَيْهِما وأخذ يناقش العراقيين مستعملًا طريقتهم متمكنًا من منهجهم العقلي – لاقى ارتياحًا وإعجابًا من المُحَدِّثِينَ، الذِينَ لَقَّبُوهُ بِـ«ناصِرِ السُنَّةِ»، على الرغم من أنه كانَ يُقَدِّرُ أبا حنيفة وأصحابه، ويذكر فضلهم وأياديهم على الفقه.

وقد يخطئ أبو حنيفة في بعض المسائل وكذلك أصحابه – وهُوَ وهُمْ ليسوا معصومين – وقد يخالفون حديثًا ما بهذا الاجتهاد، ومثل هذا يقع لعامة المُجتهدين، إلا أن الفكرة السيئة عن مدرسة أبي حنيفة، والخصومة الناشبة بين هذه المدرسة وغيرها سرعان ما تحمل الخصوم على نشر هذا الخطأ والتشنيع به، وإذا كان الشعبي يخشى تشنيع المُحَدِّثِينَ عليه إذا أخطأ، مع أنه من أئمتهم وموضع إجلالهم – فما بالك بهم إذا أخطأ أبو حنيفة؟ يقول الشعبي: «واللَّهِ لَوْ أصَبْتُ تِسْعًا وتِسْعِينَ مَرَّةً أخْطَأْتُ مَرَّةً لَعَدُّوا عَلَيَّ تِلْكَ

الواحِدَةَ» ” (5)

2. ظهور مدرسة المدينة والمدرسة العراقية :

ظهرت مدرسة أهل الحديث في المدينة ومدرسة أهل الرأي في العراق(الكوفة)، وكان الخلاف بسبب أمرين : 1/ الأخذ بالرأي: فأهل المدينة كانوا يفتون بالنصوص والآثار ولا يلجأون إلى الراي إلا قليلاً، أما اهل الرأي كانوا لا يخافون الاخذ برأيهم ما دام لم ينص على المسألة في الكتاب ولا في السنة . 2/ تفريع المسائل: كان أهل الحديث لا يفرضون المسائل ولا يفتون إلا فيما يقع بالنصوص و الآثار، أما أهل الرأي فكانوا يفرضون المسائل التي لم تقع و يستخرجون لها الأحكام بآرائهم. “ومع هذه المقاربة في المادة والمنهج بين الحجازيين والعراقيين، نلاحظ أن الحجازيين لا ينظرون بعين الرضا إلى العراقيين ويتهمونهم بالرأي. فسعيد بن المسيب – هذا الجريء على الفتوى والرأي – يضيق صدره بسؤال تلميذه ربيعة عندما يناقشه في أرش الأصابع، ويتهمه بأنه عراقي فيقول له: «أعِراقِيٌّ أنْتَ؟» فيسارع ربيعة بدفع التهمة عنه ويجيبه سعيد بقوله: «[إنَّها] السُّنَّةُ يا ابْنَ أخِي»، مع أن مأخذهما إنما هو من قول زيد بن ثابت، كَما حَقَّقَ الطَّحاوِيُّ ذَلِكَ ” (6)لجأ فقهاء العراق للرأي لعدة أسباب ككثرة الوقائع و المسائل بسبب تمدن العراق و قربها من الإمبراطورية الفارسية و اليونانية، و قلة الحديث عندهم مقارنة بالحجاز، أدى هذا إلى انقسام العلماء إلى عراقيين و حجازيين لأسباب منها أن أهل العراق زعموا أن السنة هي أحاديثهم و كان الحجازيون يرون أن حديثهم مقدم على غيرهم ولهم مطاعن و مآخذ على العراقيين بسبب ظهور البدع في العراق، وخروج الخوارج، والمعتزلة والجهمية منهم، وشهادة الزور عندهم، والحق أن المدرستان قامتا بإثراء الفقه الإسلامي وجعلت فقه المسلمين متكيف مع أحوالهم ووقائع معيشتهم لأنهما صدرتا من تلاميذ صحابة رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

3. الزهد في العلوم النقلية و الإقبال على العلوم العقلية:

“و من ذلك ما سبق أن ذكرناه من أن هذا القرن (الرابع) شهد تقهقراً في العلوم النقلية و نقصاً في عدد و نوعية طلابها. مما فتح المجال للعلوم العقلية أن تجلب إليها طاقات معطلة أو شبه معطلة، ليكون ذلك بداية تقدم العلوم العقلية على تلقي العلوم النقلية. و هذا بدوره أفرز تلك الظاهرة الغريبة على الوسط العلمي الإسلامي، و هي التمايز الواضح بين الفقهاء و المحدثين.. إنما كانت تعيش وسطاً علمياً طبيعياً سليماً، يعترف باختلاف المواهب و القدرات، لكن مع قدر كبير من التمازج والشمول في تلقي العلوم الإسلامية ” (7)

كان العصر الثالث الهجري هو العصر الذهبي لعلوم السنة، ففيه كان اهتمام المحدثين برواية السنة و بثها، وكان طلابهم مهتمين بشد الرحال في سبيل تدوينها والتوثق منها، فلم ينتهي هذا القرن إلا والسنة النبوية مدونة، بل ظهرت فيه أمهات كتب السنة كالكتب الستة و مسند أحمد و لمع فيه قدر عدد كبير من أئمة الحديث، فلما أطل القرن الرابع الهجري انتهى تدوين السنة، وضعف وقل عدد طلابها، فبدأ الكثير منهم بالانتقال إلى العلوم العقلية المستمدة من علوم الإغريق والرومان التي كانت من العوامل المشجعة عليها ازدهار وتطور بيت الحكمة الذي انشأه هارون الرشيد واهتم به وأوصله قمة مجده المأمون في القرن الرابع الهجري، فأهمل كثير من طلبة العلم خصوصاً المهتمين بالفقه علوم الحديث و صبوا اهتمامهم على علوم الفلسفة والمنطق في بيت الحكمة، فانكب من اهتم بعلم الحديث على دراسة الروايات و الطرق و الأحاديث الشاذة والمنكرة دون الاهتمام بدراسة الفقه وأحكامه، وترك طلبة الفقه علم الحديث وتمييز صحيحه من سقيمه و اشتغلوا بالفلسفة وعلم المنطق .

خاتمة

رغم أن هذا العصر الحديث يمجد التخصصية في جميع المجالات، إلا أن التكامل في العلوم الشرعية وفروعها المختلفة بصورة خاصة هو ما يحقق الفهم المطلوب لرسالة القرآن الكريم الخالدة، ولما كان الحث على بروز فقهاء ومحدثين في هذا العصر فلابد أن يكون هناك تشجيع موازي للحث على اهتمام الفقهاء والمحدثين بالعلمين معاً؛ لارتباطهما العلمي الكبير ببعضهما مما يحقق أكبر فائدة في استنباط الأحكام من الأحاديث تحت مظلة القرآن الكريم .

__________________

المصادر :

(1)من كتاب التعريف بالفقه الإسلامي_د. محمد فوزي

(2) النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي، 1/53، تدريب الراوي للسيوطي، 1/30، 34

(3) مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مجموعة من المؤلفين العدد_21دراسات في السنة النبوية ٢١/‏٩١ — محمد ضياء الرحمن الأعظمي (معاصر)

(4)أخرجه الترمذي (3790)، وابن ماجه (154)، وأحمد (12927) واللفظ له

(5) كتاب الاتجاهات الفقهية عند المحدثين

(6) كتاب الاتجاهات الفقهية عند المحدثين

(7) المنهج المقترح لفهم المصطلح ص _71_ الشريف حاتم العوني الطبعة الأولى

 524 

4920cookie-checkالإنفصال بين المحدثين والفقهاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.